يعد التجمع البشري المنظم تحديا حاولت النظريات السياسية إيجاده في الواقع الفعلي للوجود البشري، ولذلك آنتظمت جملة من الدساتير والقوانين منبرية لتأسيس الانتقال من الوضع الطبيعي إلى حال المدنية، فالطبيعة لها قوانين بيولوجية صرفة، حيث تتحكم الغريزة وتكون دافعا إلى الصراع من أجل الحصول على أكبر قدر يتيح الإشباع، وهنا يبقى الضعيف ضمن متاحات و آختيارت الأقوى، وعاش البشر ضمن منظومة الغريزة مدة من الزمن،حيث الصراعات التي أججتها وحدة الرغبات أمام نذرة الخيرات، وكان من اللازم إعمال العقل لكي يبدع منطقا سياسيا ينظم حياة الأفراد ضمن نسيج مؤسساتي صرف، يتنازل فيه الجميع عن نصيب من حريته للصالح العام المشترك، ومن هنا بدأت رحلة التشريع القانوني من أجل منظومة قانونية أمثل، تضمن حياة مدنية تحقق الكرامة البشرية بعيدا عن النزوات الممتدة في عالم الطبيعة.
إن النفس البشرية حسب العديد من المنظرين موغلة في الأنانية، بل ذكر بعضهم أن الشر فيها متأصل، ولذلك كان من اللازم حسب أفلاطون سن قانون رادع، إلا أن صفة الردع التي تعني الزجر، تلتقي مع آتجاهات أخرى تمجد الحرية، وتشترط أن تكون العقوبة غير متسلقة لأعلى درجات التشديد، وهنا يطفو في المجتمعات نقاش بين داع لعقوبة الإعدام وآخر مناهض لها، ولا أود الحديث في حجج كل فريق، ولكن أرغب في إثارة أسئلة أخرى: ما مهمة العقوبة إذا لم تكن رادعة؟ وما مشروعيتها إذا لم تحدث في سلوك الجاني تغييرا؟ وما قيمتها إذا لم توجه العقل الجمعي نحو جادة الصواب على مستوى التمثلات الذهنية، قبل السلوكات الواقعية؟
إذا كان دور القانون هو ضبط السلوكات
لتنظيم حياة الأفراد والمجتمعات، فإن هذه المهمة الضبطية تمارسها مؤسسات آجتماعية كثيرة، فالأسرة والمدرسة والإعلام…، لها طابع الإلزام وإكراه الأفراد من أجل الامتثال لما هو مطلوب ومرغوب فيه، ذلك أن صياغة الشخصية المتوخاة لا تتم أبدا بالقوانين، وإنما بالتربية بمختلف آتجاهاتها وأساليبها وقنواتها، لأن التربية لها طابع التأثير، وملامسة الوجدان، ومخاطبة العاطفة، عكس القانون الذي هو سوط جامد ينطق بالعقوبات والأحكام.
إن آنهيار القيم مؤشر على خلل في المؤسسات الاجتماعية، وعطب في الفعل الاجتماعي للتنشئة، حينما يصير الفرد أقوى من مؤسسة الأسرة أو المدرسة بسلطة القانون، فيستمرئ هذا الوضع،فلا يصير منصاعا، وعندما يصدر منه ما هو مشين مستقبلا تلقفه القانون معاقبا وكان له أمام المؤسسات منافحا، ولذلك بات لازما توجيه العدة القانونية إلى تقوية المؤسسات عوض إضعافها أمام الأفراد، لأن ذلك سيفضي لا محالة إلى رجوع بشع إلى الحال الطبيعية بآسم القانون الذي وضع أصلا من أجل مجتمع مدني قوي المؤسسات، وهذا يحيل على الدور الاستباقي للقانون، في محاربة أسباب الانحراف عوض آنتظار قضاياه في المحاكم.
طارق مرحوم
من المدنية إلى الطبيعة عودة قانونية
