الأستاذ ميمون نكاز يكتب : قلب الأمة لا يقبل الفراغ

اورو مغرب30 مايو 2024آخر تحديث :
الأستاذ ميمون نكاز يكتب : قلب الأمة لا يقبل الفراغ

أورو مغرب : رضوان امصرف

•من “الرد إلى الأم” إلى “الرد إلى الأمة”•

•فؤاد المجتمع لا يقبل الفراغ•

•”الربط على قلب الأمة”، هو الطريق إلى “المرابطة” في “ثغور الفراغ”•

ذكرنا في المسطور السابق إفادات المد اللازم في جملة(” إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين”، ودلالتها العميقة على مستوى الإحالة على شرط الامتداد الزمني الطويل لعمليات الإصلاح والتغيير، في صراع الحق مع البنيات الاستبدادية المتحكمة، فكما يمتد “صوت الحرف” مشبعا لاستيفاء متطلب المد القرائي اللازم، كذلك يمتد “صوت الحق” في الوجود الاجتماعي لاستكمال مقتضيات المد الإصلاحي اللازم.

نستكمل تأويل إفادات النص وعطاءاته، من خلال النظر في “الوحدات اللغوية المتماثلة”، التي تستثير فضولنا المعرفي، لاستظهار “الوحدات السُّنَنِيَّة المتماثلة”، من أجل اكتشاف قوانين “الكيف العقبي”: ﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ (١٣٧) هَـٰذَا بَیَانࣱ لِّلنَّاسِ وَهُدࣰى وَمَوۡعِظَةࣱ لِّلۡمُتَّقِینَ (١٣٨){ آل عمران ١٣٧-١٣٨}.

إن البيان القرآني يتجاوز-في تقديري- كل أنواع البيان التي يذكرها اللغويون والبيانيون، والبلاغيون والأصوليون، ليمدنا ببيان خاص فريد، متعلق بالإحالة على “السُّنَن الوجودية”، والكشف عن “القوانين والاشتراطات التاريخية”، التي تتطلبها الأعمال الإصلاحية والتغييرية الكبرى، وذلك باستخدام الألفاظ والوحدات اللغوية المتماثلة، كما هو جلي في المثال التالي:

في مطلع سورة القصص، نقرأ: ﴿وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمِّ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَرۡضِعِیهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَیۡهِ فَأَلۡقِیهِ فِی ٱلۡیَمِّ وَلَا تَخَافِی وَلَا تَحۡزَنِیۤۖ إِنَّا رَاۤدُّوهُ إِلَیۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ (٧){القصص٧}.
ونقرأ من آخر سياق في السورة نفسها: ﴿إِنَّ ٱلَّذِی فَرَضَ عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَاۤدُّكَ إِلَىٰ مَعَادࣲۚ”){ القصص٨٥}.

(“إنا رادوه إليك”) خطاب لأم موسى عليه السلام، و(” لرادك إلى معاد”) خطاب للرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام.

إضافة إلى الدلالة الامتدادية التي تحيلنا على شرطية الأنصبة الزمنية في الفعل الإصلاحي، فإنها تلفت نظرنا إلى “وجهة الرد”.

في الحالة التاريخية الأولى، كان الوعد الإلهي برد موسى إلى “أم موسى”، وفي الحالة التاريخية الثانية جاء الوعد برد محمد صلى الله عليه وسلم إلى أم القرى(” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد”)، والمعاد هنا أريد به مكة بحسب أحد تأويلات “المعاد”، كما رواه البخاري في الصحيح عن ابن عباس.

هذا المعاد، يذكرنا بالوعد الإلهي في “آية الوعد” للنبي وصحبه بالاستخلاف في الأرض، والتمكين الديني ، وتبديل الخوف أمنا، في سياق البلاء الشديد الذي نزل بهم، والذي تصوره رواية عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: ” كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له، سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال وكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغيروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لن تغيروا إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة ” فأنزل الله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡـࣰٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ [النور ٥٥].

الإرادة الإلهية التي نَجَّزَت الوعد في الوعد الإلهي الأول للمستضعفين من بني إسرائيل في آية:(” ونريد أن نمن ….”)، هي نفسها التي نجزت الوعد لمستضعفي مكة بالرد إليها فاتحين مستخلفين ممكنين؛ بعد الاختبار والفتنة والتمحيص، تلك هي السنن الإلهية الجارية في مجتمعات الصراع وفق “الفَرْضِ القرآني” (” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد”).

نخلص إلى ضرورة الالتفات إلى” الوحدة السننية”، وإلى “شرط الامتداد الزمني” لاستيفاء متطلبات الإصلاح والتغيير، وإلى اعتبار “فتح أم القرى” معادا قصديا للقضاء على منابع الإستبداد والاستعلاء.

•فؤاد المجتمع لا يقبل الفراغ•

﴿وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَـٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِی بِهِۦ لَوۡلَاۤ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ (١٠){القصص١٠}.

لقد شكل “غياب موسى”فراغا في فؤاد أمه، بعد الإلقاء به في اليم، كذلك شكل “إخراج النبي صلى الله عليه وسلم” من مكة إلى المدينة “فراغا في فؤاد أم القرى” مكة، بعد الإلقاء به في “يَمِّ المدافعة والصراع” مع المحيط العدائي، فكان لا بد من “الرد إلى المعاد السُّنَنِيِّ”، لملإ الفراغ، إذ “فراغ فؤادِ المجتمع” من القيادات الرسالية المقاومةِ للاستبداد، والمناهضةِ للاستعباد والظلم والفساد، يعرض المجتمع لاحتلال أثقال الظلم والفساد لفراغ الفؤاد.

•من “الربط على قلب الأم” إلى “الربط على قلب الأمة”•

عندما أصبح فؤاد أم موسى فارغا في غيبة موسى، ربط الله على قلبها لتكون من المؤمنين المصدقين بوعد الرد الإلهي لموسى ليكون من المرسلين، قيادةً تحريرية لبني إسرائيل، كذلك يجب “الربط على قلب الأمة” في سياق فراغ فؤادها، بعد التنكيل بعلمائها وحكمائها، وأخيارها وصلحائها، وبعد تقطيع الأحرار فيها، وتشريد النبلاء فيها لتكون من المؤمنين.

إننا نعتبر “الربط على قلب الأمة” من أجل تثبيتها والنفخ في روحها، في ظرف “فراغ فؤادها العام”، لإحياء همتها، وتجديد عزيمتها مقصدا شرعيا تكليفيا من ضرورات الظرفية التاريخية الحرجة، التي تجتازها أمتنا، كما نقدر “المرابطة” في “ثغور الفراغات” واجبا كفائيا على عموم الأمة، تبقى الأمة دون تحصيله متلبسة بآثام التقصير حتى تتحقق “الكفاية” فيها.

بكلمة جامعة وافية:

[ لا يتحققُ مَلْءُ “فراغ فؤاد المجتمع” إلا بِرَدِّ القياداتِ الرسالية إلى “المعاد الأُمِّ”، وفي سياق تنجيز ذلك، يجب “الربط على قلب الأمة” لتثبيت يقينها في الوعد الإلهي، والعمل عل تقوية إيمانها بقدرتها على الإصلاح الجذري والتغيير الشامل، إني لأعتبر ذلك أُمَّ امهاتِ المقاصد، ورائدَ القول الديني في مسألة الإصلاح والتغيير].

نختم بهذه المذكرة القرآنية:

﴿إِنَّ ٱلَّذِی فَرَضَ عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَاۤدُّكَ إِلَىٰ مَعَادࣲۚ قُل رَّبِّیۤ أَعۡلَمُ مَن جَاۤءَ بِٱلۡهُدَىٰ وَمَنۡ هُوَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ (٨٥) وَمَا كُنتَ تَرۡجُوۤا۟ أَن یُلۡقَىٰۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبُ إِلَّا رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِیرࣰا لِّلۡكَـٰفِرِینَ (٨٦) وَلَا یَصُدُّنَّكَ عَنۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ بَعۡدَ إِذۡ أُنزِلَتۡ إِلَیۡكَۖ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ (٨٧) وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَۘ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَیۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ (٨٨)﴾ .

تلك هي خاتمة سورة القصص، ومن روحها نستلهم واجب الأمة التاريخي، واجب الرد بالفرض القرآني، إلى المعاد المفصلي لتحقيق الفتح، والحسم مع “الاستعلاء المُشَيِّع” والاستبداد المذل”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.