التواصل السياسي والتسويف السياسي: أية علاقة؟

اورو مغرب26 أغسطس 2024آخر تحديث :
التواصل السياسي والتسويف السياسي: أية علاقة؟

اورو مغرب : د. محمد القاسمي أستاذ التعليم العالي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس

يطرح موضوع التواصل السياسي في علاقته بالتسويق السياسي إشكالات متعددة مرتبطة بطبيعة موضوعه ومنهجه، وبفهم الأشكال الجديدة للتواصل السياسي المعاصر في علاقاته الممكنة مع علوم الإعلام والتواصل والسياسة والديمقراطية وشبكات التواصل الاجتماعية الرقمية في سياقات مختلفة انتخابية منتظمة أو حالات غضب وتمرد أو في حالات الثورات الاجتماعية كما هو الشأن في الربيع العربي وغيرها، حيث يكون المجال مفتوحا للأخبار الزائفة والشائعات والتهديدات والهجمات الشخصية على الفاعلين السياسيين( المرشحين ومستشاري الحملات الانتخابية وغيرهم ).
إن تحديد طبيعة العلاقة بين التواصل السياسي والتسويق السياسي يتطلب برنامجاً متعدد الأوجه و متنوع التخصصات، يأخذ بعين الاعتبار خلاصات العلوم المعرفية حول تأثيرات وسائل الإعلام، ونتائج استطلاعات الرأي، ودراسة دور وسائل الإعلام أثناء الحملات الانتخابية، وأهمية تداول المعلومات داخل المجتمع في اتخاذ القرار، وكل هذا يؤدي إلى توجيه انتقادات لاذعة للسياسة والسياسيين، بسبب الطبيعة المتشنجة بين التواصل السياسي والتسويق السياسي، فإذا كان التواصل السياسي يبحث عن موقع خاص به في الديمقراطيات المعاصرة فإن التسويق السياسي ينظر إليه بشكل سلبي، لأنه مازال يسمح ببعض الممارسات التي تسيئ إلى العملية السياسية برمتها. وهذا ما دفع ب ” أرنو مرسييه ” Arnaud Mercier إلى عدم التشكيك في أهمية التوصل السياسي في الديمقراطيات المعاصرة على الرغم من بعض التجاوزات السياسية التي تنتجها مختلف وسائل الإعلام في المجال السياسي.(« La communication politique entre nécessité, instrumentalisation et crises » (p. 15.
ولإضفاء الشرعية على تصوره يحدد “أرنو” ثلاث وظائف أساسية للتواصل السياسي تتشكل عبر ثلاثة مستويات مختلفة وهي المستوى الأنثروبولوجي والمستوى الحكومي الرسمي والمستوى الانتخابي، فعلى المستوى الأنثروبولوجي يبدو التواصل السياسي باعتباره مسرحية أصحاب السلطة السياسية، وعلى المستوى الحكومي فإن التواصل السياسي يتموقع باعتباره أداة للحملات الانتخابية وتعبئة الناخبين، أما على المستوى الانتخابي فإن التواصل السياسي يركز بشكل أساسي على مهمتي الشفافية والاقناع.
ومن هنا فإن أهمية التواصل السياسي في الديمقراطيات المعاصرة تكمن في محاولة تجاوز الطابع التقليدي للتواصل بين الطرفين أو الأطراف المتنافسة الذي قد يصل إلى حد المواجهة الجسدية، إلى كونه أداة أساسية لتخليق الفضاء العام وفي نشأة الديمقراطيات الحديثة وتطورها. كما ينهض بأدوار ووظائف عدة في الحقل السياسي من خلال فتح ملفات سياسية للنقاش واختيار أوقات مناسبة لإغلاقها. وبالتالي يضمن ( أي التواصل السياسي) تنظيم المواجهة بين الإعلام والسياسة والرأي العام. وهذا ما يفرض عليه تحديد طبيعة العلاقة بين التواصل والإعلام والتواصل والسياسة والتواصل والرأي العام. فقبل ظهور وسائل الإعلام بوقت طويل ظل التواصل يتبع السلطة كالظل، لآن السياسة تحتاج إلى التواصل في كافة المستويات حتى تحقق أهدافها، وهذا ما يجعل من التواصل والسياسة (السلطة) يقيمان علاقات جوهرية. فكل سلطة سياسية تختار شكلا تواصليا لتأكيد سلطتها ونفوذها داخل المجتمع وإقناع الرأي العام بشرعيتها إن لزم الأمر.
وفي خضم البحث عن هذه الشرعية، تعمل السلطة السياسية على إثبات قدرتها على التأثير، بواسطة الاعتماد على مجموعة من المرجعيات المختلفة بعضها مرتبط بالخطابة والقدرة على الإبلاغ ( فن الخطابة) وبعضها الأخر مرتبط بالتسويق وبعضها الآخر مرتبط بالقدرة على السيطرة على تدفق المعلومات. فالقدرة على الإقناع والتأثير في الرأي العام مرتبط بدرجة تأثير الخطاب السياسي على الرأي العام (علم الخطابة)، كما أن القدرة على ترجمة البرنامج السياسي إلى مشاريع عملية ومبادئ عامة مرتبط بعنصر (التسويق)، وأخيرا تعمل السلطة السياسية على البحث عن شرعيتها من خلال محاولات السيطرة على تدفق المعلومات المتداولة عبر الرقابة المباشرة أو تعبئة جميع وسائل الاتصال لتطويع المجتمع ( عبر الدعاية و الإعلان).
إن تقاطع التخصصات المختلفة السالفة الذكر هو ما انتج ما يمكن تسميته بعلوم التواصل السياسي، وهو مجال واسع لازال يبحث عن ذاته، مما جعل منه برنامجا بحثيا لكل من السلطة السياسية واستراتيجيتها والدعاية والإعلان و الرقابة والأخبار الزائفة والتأثيرات الإعلامية المختلفة والأنظمة السياسية وغيرها. ومن هنا لا يمكن اختزال قضية التواصل في البعد التقليدي المرتبط بالأنشطة السياسية.
وعليه فمن الضروري إعادة النظر في تعريف التواصل السياسي ليشمل جميع أنشطة التواصل المرتبطة بالسلطة السياسية القائمة أو المحتملة، ( الذين يطمحون في السلطة السياسية) و بالمؤسسات الإدارية الرسمية وشبه الرسمية. كما أن مقاربة موضوع التواصل السياسي يتطلب الاستعانة بمجموعة من العلوم والتخصصات وفي مقدمتها علم الاجتماع (للصحفيين وهيئة التحرير على سبيل المثال)، والعلوم السياسية (لاستراتيجيات التسويق الانتخابي، وقضايا الرأي العام أو الدعاية)، والأنثروبولوجيا والسيميولوجيا (للتواصل الرمزي)، والعلوم المعرفية وعلم الاجتماع الإعلامي (لدراسة مختلف التأثيرات والاستقبال)، واللسانيات (القدرة على الإبلاغ والإقناع والحجاج)، وأخيرا علوم الإعلام والتواصل (للتأثير في الرأي العام،) و كلها تخصصات مختلفة تتضافر فيما بينها لفهم حقيقة التواصل السياسي.
إن الروابط المعقدة التي تجمع التواصل بالسياسة يتطلب تبني نظرة تفاعلية تأخذ بعين الاعتبار أضلع التواصل الثلاثة الأساسية وهي، الجمهور( الرأي العام) والجهات السياسية الفاعلة ووسائل الإعلام بصفة عامة، و الصحفيين بصفة خاصة. ومن هنا فإن التركيز على أحد العناصر وإهمال أخرى من شأنه أن يؤثر على العملية التواصلية برمتها. (Breton, Proulx, 1989).).
و يستفاد من رصد العلاقة بين التواصل والسياسة أنهما يسيران جنبا إلى جنب، فإذا كانت السياسة حاضرة في مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن التواصل يكون حاضرا بشكل طبيعي أيضا. فالسياسة ليست ظاهرة “منعزلة” بشكل نهائي عن المجتمع، ” فكل سؤال اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي… يمكن أن يصبح سؤالا سياسيا”. إلى درجة أنه قيل إن صعود التواصل يؤدي حتما إلى تراجع السياسة. وهذا لا يعني أن عجز الخطاب السياسي مرتبط بوسائل الإعلام، بل إن وسائل الإعلام تعطي رؤية معينة لهذا العجز. ولذلك تميل السياسة بشكل متزايد إلى اللجوء إلى التواصل كبديل لهذا العجز.
و تبدو طبيعة العلاقة بين التواصل والسياسة قوية أكثر في العمليات الانتخابية، فإذا كانت العملية الانتخابية مصدرا للشرعية السياسية، فإن هذه العملية لم تعد كافية في حد ذاتها في الديمقراطيات الحديثة. وأصبحت السياسة في حاجة مستمرة إلى التواصل لتأكيد على «شرعية» صناديق الاقتراع. فالساسة الذين يتقنون الوسائط السمعية والبصرية يكتسبون قدرة كبيرة على التواصل و”يستفيدون من سلطة لا مثيل لها: فالساسة الناجحون هم الأشخاص الأكثر تواصلا”(Cotteret, 1991 : 78). فمن يملك التواصل يملك السياسة.
وإذا كانت طبيعة العلاقة بين التواصل و السياسة أشد ارتباطا في العمليات الانتخابية وفي مناقشة مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها كما رأينا سابقا، فماذا عن طبيعة العلاقة بين التواصل السياسي والتسويق السياسي؟
يتفق الباحثون في مجال التواصل و السياسة والتسويق أن التسويق السياسي هو أحد أشكال التواصل السياسي الذي يهدف إلى الترويج لبرنامج انتخابي أو مرشح أو قائد أو قضية سياسية على غرار الأدوات و التقنيات المستعملة في التسويق التجاري من خلال الدعوة بشكل خاص إلى استخدام الحملات “الإعلانية” في وسائل الإعلام (توزيع المنشورات و جمع الأصوات)، عكس الأشكال التقليدية للتواصل السياسي التي تتمثل، في المناقشات والاجتماعات العامة المباشرة.
وبهذا المعنى، يصبح التسويق السياسي جزءا من استراتيجية التواصل بصفة عامة. كما أن ظهور التسويق مرتبط أكثر بتطور وسائل الإعلام والعمليات الانتخابية، ومن هنا نشأت العلاقة بين كل التسويق والتواصل والسياسة في عملية تبادل للأدوار وتلقيح مستمر بين الأطراف الثلاثة. و لذلك يلاحظ أن الكثير من التقنيات والأدوات والنظريات المستعملة في التسويق التجاري مستمدة في الواقع من التسويق السياسي والتواصل السياسي. ومن هنا فإن التسويق السياسي نموذجً نفعيً صرف يمكن أن يخدم أي أيديولوجية، وأن افتقاره إلى أيديولوجية محددة وواضحة سيكون مصدر افتقاره إلى الشرعية. ولذلك ظل التسويق السياسي مرتبطا بصفة خاصة بالحملات الانتخابية أكثر من أي مجال آخر، و ظل ينظر إلى التسويق السياسي باعتباره وسيلة تسمح بتنفيذ حملات انتخابية جيدة من خلال الاعتماد على مكونات وعلوم أساسية وفي مقدمتها العلوم السياسية وعلم الاجتماع الانتخابي والتواصل. و من هنا فإن أوجه الاختلاف بين التسويق السياسي و التسويق التجاري أكبر من أوجه التشابه بينهما.
إن ارتباط التسويق السياسي بالحملات الانتخابية لا يعني أنه يقدم حملات انتخابية تجميلية خالية من المحتوى. بل على العكس من ذلك، إن التسويق السياسي يعتمد على أطر استشارية و فكرية متخصصة في الحملات الانتخابية قادرة على إنتاج محتوى قوي مع الحفاظ بعناية على الهويات التاريخية للأحزاب السياسية، واحترام شخصية المرشحين، وتتجاوز ذلك إلى اقتراح عروض وبرامج انتخابية قادرة على المساهمة في التنمية الشاملة في أبعادها المختلفة.
ويعتمد التسويق السياسي في خطواته المنهجية على المعرفة التفصيلية لأحوال الناخبين والتشخيص الدقيق لظروف الانتخابات، من خلال توظيف الدراسات النوعية والكمية والتحليلات الإحصائية، معتمدا على أربعة أسئلة رئيسية وهي: كيف يتموضع المرشح ؟ وكيف يتموقع الخصوم ؟ وكيف يتصرف الناخبون ؟ وأخيرا ما هي المعالم العامة للانتخابات ؟ مع الانطلاق في البداية من نقطة أساسية وهي :(التشخيص الاجتماعي والسياسي) التي تجعل من الممكن بناء استراتيجية معينة للحملة الانتخابية.
وتقوم استراتيجية التسويق السياسي في ترجمة برنامجه على مجموعة من المعطيات ومنها الرسالة ( محتوى الحملة الانتخابية)، وعلى الكتلة الانتخابية “المستهدفة” الذين يتلقون هذه الرسالة، وعلى وسائل الإعلام التي تعمل على نقل الرسالة إلى الفئة المستهدفة بالإضافة إلى تحديد جدول محدد لاستخدام محتوى الحملة الانتخابية.
إن الحملة الانتخابية التي تسترشد بمبادئ التسويق السياسي تقتضي أن تكون الرسالة موحدة وفريدة من نوعها. وأن يتماهى شعار الحملة الانتخابية مع صورة المرشح، ولهذا ينبغي أن يتم اختيار الصورة بعناية فائقة، لأن الصورة (صورة المرشح) ليست شكلا زائدا، بل إنها تعبر بطريقة غير لفظية عن برنامج الحملة الانتخابية ولهذا تقع مسألة اختيار صورة المرشح في صلب اهتمامات المستشارين المكلفين بالتواصل في الحملات الانتخابية. أما عن مضمون الرسالة فإن أساس أي رسالة انتخابية ينبغي أن تكون فعالة وأن تعكس نقاط قوة المرشح، وهوية الحزب، وطموحات الناخبين ومخاوفهم .
ولكن كيف يمكن إيصال الرسالة الانتخابية إلى الكتلة الناخبة ؟ تنبغي الإشارة إلى أن الرسالة غير موجهة لجميع الناخبين في وقت موحد وبنفس الطريقة، لأن الكتلة الانتخابية غير متجانسة وغير موحدة، فبعض الناخبين المهتمين بالسياسة، يتابعون الحملات الانتخابية عبر الصحف وشبكات التواصل الاجتماعي. وبعضهم الآخر لا يحب قراءة الصحف، ولا يبالي بالحملات الانتخابية و لا يهتم بالسياسة أصلا، فما السبيل لتجاوز هذه الأزمة؟ وما هو دور صناع القرار وقادة الرأي في كل ذلك؟ وما هو طبيعة التواصل السياسي والتسويق السياسي المناسبين لكل ظاهرة انتخابية ؟
يتبع…

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.