أورو مغرب رضوان لمصرف
بقلم الأستاذ ميمون نكاز
•الإسلام والدولة بين ” العَلْمَنَة” و” المشيخة” و”الغَلْمَنَة”•
* من ” جادة العلم” إلى قليل من” الاستملاح الفكري”.
اتصل بي منذ أيام خلت صديق حميم، لم أره منذ زمن بعيد، أخذنا الكلام بيننا ورددناه، وبين طواياه وثناياه فاجأني بِذَا السؤال: أخي الكريم، أفي الإسلام دولة؟ فاجأته بجواب سريع ما توقعه، قلت: لا، قال: أليس له دولة، ألم تكن له دولة؟ قلت: لا يا صاحبي، تبسم ضاحكا من قولي ولاءاتي ثم قال: “تَعَلْمَنْتَ -أيها الفقيه الشيخ- بعد “شَيْبِ الرأس”؟ قلت: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، بل ذاك بديهي الدين عندي ، تعلمته منذ “صبا الفكر” قبل ” شَيْبِ العَقْل” قال حيرتني، نبئنا بتأويله لننظر إن كنتَ من المحسنين؟ قلت: للإسلام دُولَاتٌ في الدول، وأخرى عليها، يَدُولُ فيها بروحه ووحيه ومنظوم قيمه وقواطع أحكامه القائمة بالقسط، ويُدِيلُ عليها قيمه الكلية، تصديقا وهيمنة، نقدًا ومساءلة و لا يحب أبد الآبدين أن تَدُولَ عليه.
“صَدْرُ الدَّوْلة” – يا صاحبي-ضَيِّقٌ يقطع أنفاسَ الدين مهما اتسع.
سكت صاحبي حتى ظننت خطَّ الأثير بيننا قد انقطع، ثم قال: أأفهم من ذلك أن الدولة في الإسلام “مستحيلة” قلت: ذالك قِيلٌ ” مُحْكَمٌ مُتَشابِهٌ ” ” مَثَانِيُّ الدلالةِ والتأويل”.
قال: نبئني ” بمثنوية دلالته وتأويله” لعَلِّيَ أَعْلَمُ وأُحْكِم.
قلت: الإسلام في “الدولة المستحيلة” يُراوحُ بين ” عَلْمَنَة” و” مَشْيَخَةٍ” وغَلْمَنَة”.
قاطعني معتذرا : أما ” “العلمنة” فقد عرفناها، وأما ” المشيخة” فلَعَلَّنا، لكن ما” “الغَلْمنة”؟
قلت مبتسما دون أن يسمع ضحكتي الساخرة: ” المشيخة” و”الغلمنة” أن يُقْبَلَ الإسلامُ شيخًا مباركًا، أو غلامًا زَكِيًّا طَيِّعًا في “الدولة السيدة” -أصيلةً أو مستعارةً مُسْتَورَدَة.
قال لي صاحبي ضاحكا: مستوردة! ذكرتني بكتاب الشيخ الإخواني يوسف القرضاوي ، قلت : أي كتاب؟ قال: أظنه ” الحلول المستوردة”.
قلت: ما قصدتُه، وما طاف بعقلي، ولاخَطَر، ولكن إِذْ أَزَّكَ ذاكَ النَّعتُ والتوصيفُ فإني لك ناصح أمين بلا ” أَخْوَنَة”، اقرأ كتاب: ” الدولة المستوردة” للشيخ “العلماني” “برتراند بادي” Bertrand Badie) تجد فيه “فقهًا دليليا” “ومذهبًا برهانيا”هو خير لك من ” المتون المؤصِّلة” و” التقريرات والحواشي الشارحة” لدولة الإسلام الحديثة، فإن فَعَلْتَ أَدْرَكْتَ بعض” المُحكم” في ” الدولة المستحيلة” وأَحْسَنْتَ التعامل مع بعض” المتشابه” في ” متنها”، وعُصِمْتَ من” زيغ العقل” فيها.
بعد لحظةِ سَكْتٍ وبُرْهَةِ صَمْتٍ، قال لي صاحبي:
سيدي، ما أجمعُ وصفٍ في الكتاب مذكورٍ “للدولة المستوردة”؟
قلت : سيدي، ” دولةُ القمامة”!.
قال: اعذرني – سيدي-قد انقطع خطي الأثيري فلم أسمعك جيدا، أقلت سيدي: ” دولة القمامة”!!!.
قلت: أجل، ” دولة القمامة”، هل سمعتها، أم انقطع الخط ثانية؟
قال: بل سمعتها، سمعتها الآن صافية جلية واضحة.
قلت: الحمد لله على سلامة سمعك ، ذلك توصيف ” الشيخ العلماني” في فقهه ” للدولة المستوردة”، سافِرْ إليه واقرأه تجد عوضا عمن فارقته من ” شيوخ الأخونة”. ( الأخونة استعملها كما هي في منظور القادح، ولا تقتضي إمضاء مني ولا موافقة).
قال: لا تؤاخذني؟ قلت: لا مؤاخذة ولا ” مراهقة”.
ثم قال لي مازحا: لَوْ رَجَوْتُ منك لها وصفا، ماكنت – سيدي- قائلا إن كان لها عندك وصف.
قلت: سيدي، هي “الدولة البتراءُ” بطبعها لا تقبل ” الكوثرة”، تسر “الغائرين” .
قهقه صاحبي وقال: عدنا من جديد إلى” الكوثرة”.
قلت: نعم نعم، هي “بَتْراءُ مُغِيرَةٌ” تأبى “الكوثرة”، تُغِيرُ عليها، تأباها، هي “بتراء غَائِرةٌ مُغَوِّرَة”، يَغُورُ ” الدين والإنسان” في قيعانها أو أقواعها.
قال لي صاحبي: أَشْعُرُ بشقيقة في الرأس.
قلت: لعلك تحت شمس النقد الحارقة؟ قال: ربما.
قلت: ارفع رأسك واستيقن، تجدها شارِقةً شارِقة،قال: هو كذلك.
قلت: سَلَّمَ الله رأسك، تَحَرَّكْ بعقلِك، عَفْوًا تَحَرَّكْ برأسك نحو مطلوبك، حتى لا تؤذيها شمسُ النقدِ الحارقة.
قال صديقي الحميم وهو محموم : هذا قول منك عُجَاب، شبيه بقول دعاة “فصل الدين عن الدولة”، قلت : أذكرتني بقول من سبق (” إنما البيع مثل الربا”)، يا صديقي المحموم: إن عيون غلمان بني علمان أشد عِشىً من هؤلاء الأقدمين، أولائك توهموا التشابه حيث لا مشابهة، وبنوا ” غِعِلمان توهموا المفاصلة حيث لا مفاصلة، وإن عيونَ كثير من بني “سِلفان” ومن بني “خِلفان” عيونٌ حَوْلاَءُ عاشقةٌ، فُتِنوا بزينتها، حسبوها عروسا بكرا حسناء واعدة، فإذا هي بعد الدخول ثَيِّبٌ مُرْهَقَةٌ مُرْهِقَة، نَزِّهْنَا عن ذلك يا صاحبي، فذلك غثاء من القول أبتر، واعلم أن الدين إنما فَصَلَ نفسَه بنفسِه في أول نشأةٍ، حتى لا تقطع الدولة أنفاسه، و”تُفَصِّلَهُ” على المقاس تفصيلا ما أخبثه وماأقبحه.
ما انْتَظرَ الدينُ – يا صاحبي- “غِِلْمَانَ بني عِلمان” ليَفْصِلوه عنها، ولن يقبل أن يُفَصِّلُوهُ ” خارجها” تفصيلا بالقرطسة والتعضية والأبترة.
لإسلامنا- ياصاحبي – دُولاَتٌ في الدُّوَلِ وأُخرى عليها ، يأبى فيها أن تَدُولَ عَليه، واعلم – يا صاحبي – أن كل حديث عن ” الدولةِ الحديثة” لباسًا واقيًا للدين حاميًا عند بني ” سِلْفانَ” وبني ” خِلْفان” هو من “أساطير المتأخرين”، لا يقل سفاهة وتفاهة عن” أسطورة فصل الدين عن الدولة” عند بني غِعِلْمَانِ”.
ذلك مُعْتَصَرُ تأويل رؤياي في ” الدين والدولة”.
قال لي صاحبي : هل من كلمة خاتمة تبقى في القلب والعقل عالقة؟
قلت: الدين قيمة والدولة آلة، فلا تخلط بين القيمة والآلة.
قال: يقولون ظاهرها آلة وباطنها “قيمة سِتِّيرَة”، و”وظيفة شِرِّيرَة”، أو يقولون : هي آلة ذات وظيفة تحمل قيمة.
قلت: لذلك قيل بينهما استحالة.
سيكون لنا – يوما ما- عودة لإكمال هذا الحديث ، ظَنَنْتُهَا هَمَّةً مني بصاحبي ليكف عن الكلام، لكن صاحبي بادرني بالسؤال الذي كنت موقنا قاطعًا أَنْ يَذْكُرَه، قال: يا سيدي ما موقع “الخلافة” من بلاغة هذا النظر؟
غلبني العطاس فعطست، وبعد الحمد شمتني صاحبي قائلا: يرحمك الله، قلت: ويرحم الله” الخلافة” قُتِلَتْ أو ماتتْ، يهديكم الله ويصلح بالكم.
ثم قلت: يا صاحبي أتسأل عن” الاسم” أم “المسمى”، عن “المبنى” أم “المعنى”، عن ” القيمة ” أم “الخبرة”،أتسأل عن ” دلالة اللغة” أم ” دلالة الشرع” أم “دلالة العرف” أم ” دلالة العقل”؟
قال : سيدي – معذرة- لا تلاعبني بما لا يُفْهَم من خليط الكلام، ولا تعبث بعقلي، إني واثق أنك تعرف قصدي؟
قلت: بلى أعرفه، ومن ذا الذي لا يعرف قصدك، إنها ” الخلافة”؟
قال: إذا هي من الدين.
قلت: بل كانت من تاريخ فضاء الدين.
قال: اقتضاها الدين إذا؟
قلت: بالاعتبار الوسيلي لا بالقصد الأولي،وبالتحصيل البشري لا بالتقديس الديني.
قال: لم أفهم.
قلت: وجودها في تاريخ المسلمين وسيلي لحراسة ما لا يُحْرَسُ من الدين إلا بسلطان، ولسياسة الدنيا بقيم الدين.( أتحدث عن المبدأ لا عن الممارسة).
قال: أفهم من ذلك ضرورة وجودها ولزوم إيجادها.
قلت: بل وجود المعنى القيمي الملحوظ فيها هو الضروري.
ثم عاجلت صاحبي بسؤال قبل أن يستمر بملاحقتي بِسُلَيْسِلَةِ أسئلته، هل قرأت القرآن كله؟ قال: أجل، عَدَدَ سنين، ولا أزال أتلوه آناءً من الليل وأطرافًا من النهار.
قلت: هل وجدت في القرآن كائنا مخاطبا يمثل ذاتا مستقلة منفصلة تسمى “خلافة” أو “دولة”؟
سكت وفكر قليلا ثم قال: لا ذِكْرَ في وحي القرآن ” لكائن” مخاطب يسمى “خلافة” أو “دولة”.
قلت : أحسنت وأجملت، كم عدد آي الذكر الحكيم التي خاطب الله فيها ” الأمة” و”الناس” و” الإنسان”؟
قال: لا أذكر عدد الآي.
قلت: هل عَقَلْتَ مقصودَ الكلام، لم تُذْكرْ لأن أصالة الخطاب في وحي القرآن هو في غاياته الكبرى خطاب لِ” الناس” و” الأمة”، و ” الإنسان”، ولم يكن خطابا لكائن حي ثابت بذاته يُسمى “خلافة” أو ” دولة” في يوم من الأيام.
قال لي صاحبي:
لا أزال أجد صعوبة في فهم ” الفرق” والوفق” بين قولك هذا وبين قول القائلين: للإسلام دولة وقول القائلين: لا دولة في الإسلام؟
قلت: صدقتَ وعُذِرْتَ، يوم تعرف “الفرق” و”الوفق” بين “المبنى” و”المعنى”، ستعرف مقصود كلام من عاش في كنف الإسلام من “صبا النفس” إلى ” شيب العقل”.
قال: فأين أنت – يا سيدي- من نصوص الخلافة والاستخلاف والإلزام الضروري والوجوبي بالاحتكام والتحاكم إلى شرع الله تعالى؟
قلت: هل من تلازم بين ذلك وبين” شرطية الخلافة” أو ” شرطية الدولة” بالمفهوم النسقي والمؤسسي؟
قال : نَعَمْ وهو لا يَعْقِلُ -عندي يقينا- مَا نَعَمْ!!!.
ثم تنهدت آسفًا، وهَمْهَمْتُ قائلا : غاب جوهر الدين، بل غُيِّبَ بين لاَ ونَعَمْ.
ثم تذكرت بعد نسيانٍ أن صاحبي كان قد شكاني شقيقة رأسه، فبادرت إلى معانقته عبر الأثير معتذرا، وَوَدَعْتُهُ متحركا لا واقفا تُشِعُّ طريقَه شمسُ النقد الحارقة.
كتبه: ميمون نكاز.
ملاحظات:
– “الغِعِلْمانِيون” اختصار لغلمان العلمانية”.
-” المراهقة” مستلة من قوله تعالى:” ولا ترهقني من أمري عسرًا.
-L’État importé. Essai sur l’occidentalisation de l’ordre politique Bertrand Badie Coll. «L’espace du politique» Paris: Fayard, 1992, 334 p.